وهبة وهبة ـ رحيل الرجل الذي لا يُمكن إلّا أن تُحبّه/ مرزوق الحلبي

في المرة الأولى التي التقيت فيها عن قرب مع أبو آسي، كانت عندما أقمنا في نهاية الثمانينيات لجنة شعبيّة للدفاع عن بيوت مهدّدة بالهدم، من بينها بيوت لأفراد من عائلات أبو الزلف وبدرية ومقلدة. شارك معنا في كل اجتماع تقريبًا. وتبنّى موقف الناس ولم يتفلسف ولم يهدّد ولم يُبرّر سياسات الحصار والخناق. صحيح أنه كان ينتمي لحزب في الحكومة ولإدارة السلطة المحلّية، لكنّه اصطفّ مع الناس دون قيد أو شرط وحمل مطالبهم وحقوقهم معه. في أحد الاجتماعات أنشأتُ خطابًا "ثوريًّا" كممثل لجمعية الخريجين في اللجنة. فصفّق وقال: "اكتب الخطاب بالعبريّة وأعطيني إياه ضروري". سألناه لماذا؟ قال: سأعطيه لوزير الداخلية ومسؤولي الوزارة وأوضّح لهم ما يُفكّر به الناس في الدالية عن الدولة ومؤسساتها. احترمتُ موقفه ولبّيت طلبه. نجحت المعركة يومها ولا تزال البيوت قائمة وأصحابها يعيشون فيها بعزّة وكرامة.
في المرة الثانية التي التقيته فيها، في إطار عمل، كانت عندما كان رئيسًا للجنة "ريخس هكرمل". ذهبت إليه لتسريع استصدار ترخيص لبناء بيتي وكان معالجة طلبي بطيئة. في لقاء كان صاخبًا لكن ودّيًا، وعدني أنه سيهتمّ شخصيًّا بعقد جلسة خاصة للمهندسين والطاقم المهنيّ للبحث في طلبي. وتعهّد أن يُحضر لي ترخيص البناء بنفسه فور التصديق عليه. وهو ما كان.
أسوق هذين المثالين لأنهما حصلا بهذا الشكل أو ذاك مع عشرات ـ وبعضهم يقول مئات ـ مواطني ومواطنات الدالية وعسفيا. وهبة وهبة كان في منصبه رئيسًا لـ"ريخس هكرمل" كي يؤدّي خدمات وكي يسهّل ويُساعد ويصطفّ مع مواطني بلده لا كي يحوّله إلى أداة سيطرة وتحكّم برقابهم.
وهبة وهبة كان هناك إلى جانب فهمي حلبي عندما حصّلت إدارتهما أراضي "الدالية الشابة" شرق الدالية ـ هل تتخيلون الدالية اليوم بدون هذا الحي وسكانه؟ وقد حصّلوا يومها كل الأرض حتى جنوب منتزه الحديد التي تعرّضت لمحاولة سلخها عن الدالية. كلّ هذه الأرض حصّلها وهبة وهبة من موقعه في حزب شاس وشخصيّة مركزيّة إلى جانب فهمي حلبي في بناء دالية الكرمل وإنشاء بُناها التحتية وتحصيل الأرض المطلوبة للمرافق العامة والمدارس. كان هناك كي يُطالب ويدافع لا كي يسلّم الدالية رخيصة للغرباء.
وهبة وهبة ـ تستطيع أن تقول عنه ما تُريد، لكن لا تستطيع أن تأخذ منه عمله وأثره في التعمير والبناء. لا تستطيع أن تأخذ منه التزامه بخدمة أهل بلده. كان يعرف السلطة والأحزاب ويعرف منظومة عملها فعرف كيف يستغلّها ليخدم. هو من الناس الذين خدموا، ساعدوا الناس ولم يضرّوها، من الذين حصّلوا الأرض ووضعوها تحت تصرّف الدالية ولم يسلّم أراضي الناس لأحد!
على المستوى الشخصي، عرفته كريمًا يُعطي أكثر مما يأخذ، مثابرًا قد يفشل كي ينجح بعدها، عرفته طيّب المعشر ومحدّثًا لبقًا ـ "فاكهة"، كما نقول ـ وعرفته ذكيًّا صريحًا في حبّه وفي نقده. وعرفته محبًّا غير عاديّ للشعر. حفظ منه لا سيّما من الزجل أطنانًا. هذا إضافة إلى ثقافته الواسعة في مواضيع بدت لأول وهلة بعيدة عن عمله واهتمامه. وكان اجتهد في سنواته الأخيرة ودرس القانون وأنهى دراسته بامتياز.
ماذا يترك الإنسان سوى ذكراه؟
لتبق ذكرى أبو آسي طيّبة.
وهبة وهبة ـ حتى لو اختلفت معه فلا بدّ أن تُحبّه!
لروحه ألف سلام.

(دالية الكرمل 17 تموز 2024)